دور الإرادة السياسية في تحقيق التنمية
إن الدول عندما تود أن تغّير من اوضاعها داخليًا إلى وضعٍ أفضل، خصوصًا في الجانب الاقتصادي و التنموي، فلابد أن ترسم خطةً لهذا التغيير، خطةً تنموية تمهد الطريق وتشرح آلية السير فيه حتى تصل إلى الهدف المرغوب.
الأهم من وضع الخطة، هو وجود إرادة سياسية في الدولة تعمل على تنفيذ الخطة و تحسينها بشكل مستمر و التأكد من المضِّي في تحقيقها بشكلٍ متوازن و سليم، لأن عدم وجود إرادة سياسية قوية تجعل أي خطة مهما كانت قويةً وإيجابية مجرد حبرٍ على ورق.
و سنضرب عدة أمثلة توضح أهمية الإرادة السياسية و دورها الفعَّال في تحقيق خطة التنمية الموضوعة وجعلها حقيقةً على أرض الواقع.
نبدأ بالصين والتي تحولت في حوالي ثلاثة عقود من بلدٍ زراعي يقع معظم سكانه تحت خط الفقر إلى دولةٍ صناعية عظمى و قطبٍ من أقطاب العالم اليوم.
بدأت الحكاية بعد وفاة ماو تسي تونغ و تولي دنغ شياو بينغ الذي تخلى كثيرًا عن السياسات الاشتراكية و الشيوعية التي تبناها سلفه ماو، فشجع تواجد الاستثمار الأجنبي وبنى المناطق الاقتصادية الضخمة لجذب الاستثمارات الخارجية، كما و وضع الخطط الكبيرة لبناء نموذج صناعي قوي يكتسح العالم أجمع بدعم مباشر من القيادة السياسية، كل هذا ساعد بقوة على حصول القفزة العظيمة التي وصلت لها الصين في عهده، وقد سار من تولى بعده قيادة الصين على ذات نهجه في جذب الاستثمارات و دعم الصناعات حتى تحولت الصين إلى مصنعٍ عملاق يصدِّر منتجاته إلى كل دول العالم تقريبًا.
النموذج الثاني ليس بعيدًا عن الصين، وهي ايضًا دولةٌ آسيوية، عانت من الحرب العالمية الثانية كثيرًا، بل هي من أطرافه الخاسرة، تلك الدولة هي اليابان.
عانت اليابان من الخسائر المادية و البشرية اثناء الحرب العالمية الثانية حتى انتهت باستسلامها دون قيدٍ أو شرط بعد ضربها بقنبلتين نوويتين.
لم يكن هذا الأمر سببًا في وقوعها في اليأس، بل كان محفزًا قويًا لها للعمل وإعادة الأمور لأفضل مما كانت عليه قبل الحرب، فقد تبنَّت الحكومة اليابانية سياساتٍ اقتصادية و اجتماعية اصلاحية، فدعمت التصنيع و الاستثمارات الخارجية و دعمت الشركات المحلية لتخرج للعالم مثل تويوتا و غيرها، كما دعمت التعليم و طورت علاقاتها بالقطاع الخاص عبر إقامة شراكات مع الحكومة اليابانية، كل ذلك ساهم بوصول اليابان إلى ما هي فيه اليوم من نموٍ اقتصادي و قوةٍ صناعية.
ننتقل في نموذجنا الثالث من الشرق إلى الغرب، وهي دولةٌ أوروبية عانت مرارات الحروب و الدمار و الفقر، وهي المانيا.
تلك البلد التي خرجت من الحرب العالمية الأولى باقتصادٍ سيء وبلدٍ مدمر محملٍ بديون ثقيلة بسبب معاهدة فرساي، ثم خرجت بعد الحرب العالمية الثانية وهي أشد سوءًا و دمارًا من حالتها بعد الحرب العالمية الأولى، ليس ذلك وحسب، بل خرجت وهو مقسمةٌ بين أربع دول وهي الاتحاد السوفيتي و بريطانيا و فرنسا و الولايات المتحدة الأمريكية.
بدأت قصة ألمانيا بعد أن اندمجت ثلاثة أقسامٍ منها والتي كانت تحت سيطرة بريطانيا و فرنسا و امريكا فيما سمي بألمانيا الغربية، وذلك عام 1949 تقريبًا وكانت بقيادة المستشار الألماني كونراد أديناور.
بدأ كونراد بالإصلاحات الاقتصادية المباشرة و عمليات إعادة الإعمار بالتعاون مع الحلفاء الأوروبيون بالإضافة للولايات المتحدة الأمريكية، عن طريق مساعدات مارشال.
مع مرور الوقت ومع تطبيق الخطط الإصلاحية التي فرضتها الإرادة السياسية الألمانية بدأت ألمانيا الغربية بالصعود بشكلٍ تدريجي و ثابت حتى أصبحت من أقوى الاقتصادات الأوروبية، ثم بعد سقوط جدار برلين وإعادة توحيد المانيا عام 1990 استمرت المانيا في طريقها، مستشارًا بعد مستشار حتى تحولت المانيا في عقودٍ قليلة من دولةٍ مدمرة محملة بالديون و مليئة بالفقر إلى دولة صناعية قوية اقتصادها وحده يساوي اقتصاد دول كثيرة.
اخيرًا، ننتقل إلى نموذجنا الرابع وهي دولة عريبة، والتي بدأت رحلتها نحو التنمية منذ سنواتٍ قليلة، الا وهي المملكة العربية السعودية، والتي تبرز الأن كمثالٍ حي على الدولة التي تسعى للتنمية بكل ما أوتيت من قوة.
كانت المملكة العريبة السعودية حتى عام 2017 دولةً تعتمد على انتاج و بيع النفط في دخلها بنسبة تجاوزت ال90٪ تقريبًا، وكما هو معلوم أن النفط سلعةٌ ستنضب ذات يوم، أو سيتم الاستغناء عنها قبل أن تنضب حتى.
لذلك، بدأت السعودية رؤيتها الطموحة 2030 بقيادة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لتنويع مصادر دخل بعيدًا عن النفط لتتوجه نحو الصناعات الثقيلة و الخفيفة، العسكرية و المدنية، بالإضافة للتركيز على الثروات المعدنية و كذلك الطبيعية مثل الغاز و الطاقة المتجددة منها الشمسية و الهوائية و غيرها، كذلك التركيز على جذب الاستثمارات العالمية في مختلف المجالات، خصوصًا التقنية و الذكاء الاصطناعي، كذلك الحرص على السياحة و الترفيه و استقطاب الأحداث و الفعاليات العالمية وكافة أشكال القوة الناعمة بشكل عام.
بدأت آثار الرؤية تتضح جليًا بعد ارتفاع قيمة أصول صندوق الاستثمارات العامة السعودي، بالإضافة لإرتفاع نسبة الصناعات المحلية في مختلف القطاعات، بالإضافة للعديد من المشاريع العملاقة مثل مدينة نيوم والتي تجمع بين الصناعة و الاستثمار و الترفيه وغيرها من الأمور، وايضًا المشاريع السياحية المتعددة التي تم الانتهاء منها وغيرها من التي ما زال يتم العمل عليها.
كل هذا سيجعل السعودية في القريب العاجل دولةً صناعيةً قوية لها مصادر دخل متعددة كثيرة و ثابتة غير النفط بإذن الله تعالى.
ختامًا، هذه النماذج وغيرها الكثير، يثبت أن الإرادة السياسية القوية و الحكيمة هي اساس أي تنمية في أي بلد يرغب في التنمية و القوة و المنافسة عالميًا، حتى لو كان ذلك البلد فقيرًا أو مدمرًا أو لا يملك أي موارد أو حتى غنيًا ولكن يرغب في زيادة قوته عبر التنمية
تعليقات
إرسال تعليق