أهمية القوة في سبيل تنفيذ سياسة الدولة الخارجية

إن الدولة - أي دولة مهما كانت - لابد وأن يكون لها مصالح استراتيجية خارجية تسعى لتحقيقها ومن ثمّ الحفاظ عليها و تطويرها، وتختلف هذه المصالح من دولة إلى أخرى و تختلف الطرق التي تسلكها الدول في سبيل تحقيق مصالحها، حسب نوع تلك المصالح و أهميتها وحسب قوة تلك الدولة في السياسة الخارجية، ولكن تتشابه كل الدول بأن لها مصالح خارجية تسعى لتحقيقها.

هناك بلا شك علاقة طردية بين قوة الدولة و مدى إمكانية تحقيقها لأهداف سياستها الخارجية و حصولها على مصالحها الاستراتيجية، خصوصًا في ظل النظام العالمي الحالي الذي يحتكم بشريعة الغاب، والذي ولا تُعير فيه الدول "العظمى" أي اهتمامٍ بالقانون الدولي إذا كان يتعارض مع مصالحها، وكأنه غير موجودٍ على الإطلاق، ولا تكون مثل تلك القوانين موجودة و مطبقة إلا على الدول الضعيفة و الهامشية أو عندما يتلاءم مع مصالح القوى العظمى في السيطرة و الهيمنة.

هنا، لابد وأن تسعى الدول سعيًا حثيثًا غير منقطع لزيادة قوتها في كافة المجالات، الإقتصادية و السياسية و التجارية و الصناعية و العلمية و التقنية و التكنولوجية، حتى يتسنى لها اللعب بقوة في ساحة السياسة الدولية و فرض نفسها بجدارة على منافسيها و أعدائها.

ايضًا، يجب التنويه على أن الدولة القوية لابد وأن تحرص على تنمية جميع مجالات القوة بذات الدرجة أو بفوارق بسيطة لا تذكر، حتى تتمكن من الصمود في وجه الدول الأخرى بشكلٍ أقوى، فلو حرصت الدولة على تطوير مجالٍ واحد وإهملت باقي المجالات لغلبها منافسوها في المجالات التي أهملتها، مهما بلغت قوة تلك الدولة في المجال الذي حرصت على تطويره.

نأخذ الإتحاد السوفييتي كمثال، في فترة الحرب الباردة، أنفق الاتحاد السوفييتي مبالغ طائلة على القوة العسكرية و الصناعات العسكرية حتى أنه بسبب ذلك أهمل باقي المجالات المهمة، رغم أنه قد بدأ في أول الحرب الباردة بشكلٍ صحيح بإهتمامه بكافة المجالات تقريبًا إلا أنه في آخر سنواته، ومع تصاعد لهيب الحرب الباردة و المواجهات الغير مباشرة بينه و بين الولايات المتحدة الأمريكية بدأ يركز على القوة العسكرية و يهمل ما دونها، بعكس الولايات المتحدة الأمريكية والتي حرصت على الاهتمام بكل الجوانب بحكمةٍ و ذكاء، فكانت النتيجة أن سقط الاتحاد السوفييتي و تفكك إلى دولٍ عديدة ينتشر فيها الفقر المدقع بسبب سياسات الاتحاد السوفييتي بينما بقيت الولايات المتحدة الأمريكية وتسيدت العالم و حكمته حتى اليوم.

العبرة من هذه القصة أن الدولة التي تسعى للقوة و النفوذ، لابد وأن تحرص على تحقيق مصالحها الاستراتيجية الخارجية ولا سبيل إلى ذلك في ظل شريعة الغاب التي تحكم السياسة الدولية إلا بالقوة، وليس القوة العسكرية فقط، بل كافة أنواع القوة دون استثناء، فلا يمكن أن يُغني نوع قوة عن آخر فكلها ذات أهمية متساوية، ثم إن على الدولة أن تدرس نقاط قوتها و تحرص على تنميتها واستغلالها الاستغلال الأمثل، ثم تدرس نقاط ضعفها وتسعى لإصلاحها ما أمكن، ويجب أن تعمل على الكفتين في ذات الوقت، حتى تتمكن من المنافسة دوليًا بكل اقتدار.

من الجوانب ذات الأهمية في تحقيق أهداف السياسة الخارجية هو العلاقات الممتازة مع الأقطاب العظمى، فهي تُضّفي قوةً كبيرة للدولة لتنفيذ سياساتها طالما لم تتعارض مصالحها مع مصالح تلك الدول العظمى، ولكنّي شخصيًا أفضِّل أن تستقل الدولة بذاتها و كيانها ولا يجمعها مع باقي الدول إلا حفظ السلام و المصالح المتبادلة، ولا أعني بذلك ألَّا تتعامل الدولة مع أي دولةٍ أخرى، لا، على الاطلاق، تتعامل ولكن، دون أن تصل إلى النقطة التي تضر فيها بتعاملها مع دولةٍ ما مصالحها الاستراتيجية و الحيوية.
ولكن هناك ايضًا نقطةٌ مهمة في العلاقات مع الدول العظمى خصوصًا، وهي مسألة المحاسبة الدولية، حيث أن العلاقات الممتازة مع الدول الخمسة صاحبة العضوية الدائمة في مجلس الأمن و التي تمتلك حق النقض أو إحداها على الأقل يجنب الدولة التورط في المسائلة الدولية أو العقوبات الدولية، حيث ستنقض الدولة العظمى الصديقة أي مشروع عقوبات قبل إقراره، وأبرز دليل على ذلك نقض الولايات المتحدة الأمريكية للقرارات الدولية التي تُدين اسرائيل بارتكابها المجازر والإبادات للمدنيين في غزة.

بالرغم من عدم فاعلية القانون الدولي في السياسة الدولية الواقعية إلا أن القوى العظمى تستعمله كسلاح ضد باقي الدول لتشويه سمعتها أو لفرض عقوباتٍ عليها، حتى أن الدول العظمى تستخدمه كذريعة لإتهام دول عظمى أخرى، ولكن هذه الاتهامات في الغالب شكلية، خصوصًا التي تكون بين الدول العظمى، ولكن مع ذلك، فإن وجود دولة عظمى حليفة أو أكثر من تلك الخمسة يجنب الدولة المعنية الكثير من المتاعب المحتملة التي قد تأتي من العقوبات الدولية أو من آثارها.

اما بالنسبة للسلاح النووي فلن أُطيل فيه، لأن الحصول عليه أمرٌ في غاية الصعوبة ولكنَّ الحصول عليه يضيف قوةً كبيرة للدولة التي تمتلكه ويجعلها تتخطى كل القوانين الدولية دون وضع أي اعتبار، باستثناء لو واجهتها دولةٌ نووية أخرى، خصوصًا لو كانت أقوى منها في جوانب أخرى.
حتى تتضح الصورة بمعنى الدولة التي أقصدها، سأضرب مثالًا بدولة ( أ ).

دولة ( أ ) هذه، تمتلك مصانع و مزارع تغطي معظم حاجاتها الاساسية من غذاءٍ و دواء و سلاحٍ و أدواتٍ استهلاكية، كما أن لها استثماراتٍ متنوعة تصنع لها دخلًا جيدًا، إضافةً لمصادر دخل أخرى سواءً من موارد طبيعية أو من صادراتٍ صناعية، والأفضل لو توفر الإثنان، بالإضافة لعلاقاتٍ قوية مع الدول، العظمى اولًا و القوية والمهمة ثانيًا، والمتواضعة و البسيطة ثالثًا، كما أن لها جيشًا قويًا واستقرارًا وسيادة داخل اراضيها، ولها علاقاتٌ طيبة مع الدول المجاورة لها، واخيرًا، يكون دخلها الإجمالي يكفيها وحبذا لو كان أكثر قليلًا، كما أنه لاضير لو كان أقل، بشرط أن يكون على المدى القصير.

هذه الدولة في رأيي هي دولةٌ قادرة على تنفيذ سياساتها الخارجية بكل قوةٍ واقتدار دون الانقياد للضغوطات أو تقبُّل الإملاءات من أحد.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من حرب الاستخبارات و تصفية القيادات إلى الحرب الإقليمية

العملاق الذي استيقظ

الحرب و الانتخابات الأمريكية و مستقبل الشرق الأوسط